بقلم الكاتبة / حنان فاروق العجمي
أثار انتباهي العنوان الذي استخدمه الكاتب للقصة وهو "صفاري شمس" ولماذا وقع الاختيار عليه؟
صفاري شمس
قصة قصيرة
بقلمي
طه هيكل
كلمة طالما كنت أسمعها
أتأمل معناها أحاول فك رموزها
هل تعني اصفرار قرص الشمس حين تهوي إلى المغيب
أو تعني مرضا ألم بها حال ذبولها وعودتها إلى بيتها
في عالم اللامتناهي أو تعني مرضا ألم بها حال ذبولها وعودتها إلى بيتها
في عالم اللامتناهي
وأعيد التفكير في معناها بطريقة أخرى
إذ تغير المعنى في مخيلتي وجاء بلفظ السفر فتسافر الشمس إلى حيث لانعلم ولا ندري في عالم من الغيب يجل عن التوغل فيه وفي كنهه
أسمع أمي تقول صفاري شمس في عز وهج حرارتها في ريف قاتل حره
وحياة تخلو من الرفاهية وتخلو من الضروريات كانت اللمبة الزجاجية وأختها الصغيرة السهاري هما مصدر النور بعد صفاري شمس
وكان وابور الجاز هو الراعي الرسمي لإطعام الأسرة وإنضاج طعامها
رائحة الجاز مازالت عالقة في أنفي برغم تقادم العهد بها ومرور عشرات السنين وعندما يطفح الكيل بالوابور يسجل اعتراضه بضخ سيل من الكيروسين حول رقبته محاولا الانتحار حرقا
فيبادر الأب بإطفاء الحريق حول رقبة الوابور داعيا لنا بالانتظار ريثما يهدأ ضجيجه وتخبو ثورته وعندما يئن الوابور فإنه يقسم لنا أنه قد ضاق ذرعا بنا فالأسرة على كثرة عددها تتناوب الالتفاف حوله في وجبة الإفطار كان كوب الشاي الأسود هو الزاد اليومي للأسرة مع بعض أرغفة الخبز وحبات الفلافل الساخنة وأحيانا كان الاكتفاء ببعض اللقيمات مع قليل من الملح المخلوط بالبهارات بطعم لم تغير السنوات الشعور بحلاوته إلى الآن وكان الرضا بالمقسوم سمة لنا فلم نكن ننظر لمن يمتلكون الرفاهية إلا لمحاولة التقرب منهم لنيل الرضا حتى نشاهد التليفزيون عندهم ذلك الجهاز الساحر العجيب الذي يلتف حوله عشرات من الأهل والأقارب كانت الحارة كلها ليس بها إلا جهاز أبيض وأسود يتم عرض المسلسلات العربية بالأجرة تعريفة للمسلسل وقرش صاغ واحد للمباراة كعرض سينيمائي يتناوب المشاهدون التحليق حوله لاتفوتهم حلقة من حلقاته أو مباراة للكرة والتعصب القاتل للأهلي والزمالك التليفزيون كان هو سبب صلة الأرحام لنا نحن الصغار فنزور من عندهم تليفزيون ونعرض خدماتنا ليسمحوا لنا بمتابعة مسلسلات هراس جاي وعبدالله النديم و غيرها وأحداث المسلسلات التاريخية التي لا يمكن محو حلقاتها من الذاكرة بسهولة وفاطمة هاتعمل العملية يا جمعة
جمعة الشوان
وجار لنا في البيت الله يرحمه عم جمعة بلغت الخشونة من يده مبلغا يكاد يدمي من يسلم عليه
وكان مرحا خفيف الظل بالرغم من قسوة الأيام عليه وفقره الشديد
كان يقول لابنه الرافض الذهاب إلى المدرسة بكل تأكيد علي الطلاق من أمك لو مارحت المدرسة لأدوس على زمارة رقبتك أبوظها
وفي رحلتنا مع الوابور يتعرض لحوادث جمة فتارة يصاب بكسر في رجله فيميل وتميل معه القلوب ضارعة أن يستجيب لتوسلاتنا أن يتم مهمته في طبخ الغداء وبعدين ربنا يحلها فتميل الطاسة أو الحلة فنخرج مسرعين إلى الشارع للبحث عن طوبة أو زلطة نسند بها الرجل التي كسرت
وتارة يتعرض لحادث من نوع آخر وهو الكتمان فلا يكاد يخرج النار بصورة مستقيمة فتراها وقد أصبحت في جانب واحد ونبحث عن الإبرة ذات السن الرفيع جدا لندخلها داخل مخرج النار ومرة واحدة نضع الإبرة داخل عينه الواحدة التي نحيا من آثارها فيصيح بأعلى صوت بس أنا ها أتعدل وينضج الطعام في سرعة عجيبة بعد أن تم تسليكه
وتمضي الرحلة إلى السمكري ليأخذ مبلغا زهيدا لإصلاح ساق الوابور
لحين يتعرض للكسر مرة أخرى
وتحلو في رمضان مسلسلات وأحداث تتناوب دورها على الذاكرة فتنحني إجلالا لقوة تلك الذاكرة التي تحتفظ بتفاصيل لو كتبت لملأت أسفارا على روعتها ويوم حصاد القطن يطل بتفاصيله الرهيبة على الذاكرة وطعم الماء العذب الذي يخرج من باطن الأرض عذبا يروي ظمأ الحناجر وجفاف الشفاه من كثرة العمل وأقول لأمي ها نروح امتى قتقول بكل بساطة : صفاري شمس
طه هيكل
التحليل والقراءة للقصة:-
بعد القراءة عدة مرات أدركت أن هناك ارتباط كبير بين عنوان القصة الذي اختاره الكاتب ا.طه هيكل وأسلوب سرده الرائع والعميق للقصة والتي يمكن أن نصفها بالسيرة الذاتية للكاتب بل مغامرة من مغامرات حياته في زمن كزمن الأديب الكبير وعميد الأدب العربي
د.طه حسين رغم مرور سنوات عديدة إن جاز لنا التشبيه بتلك الحقبة الزمنية التي عاش فيها والقرية وحياة الريف بالثمانينات رغم عدم ذكر الكاتب التاريخ وبأي سنة كانت الأحداث إلا أنها تبدو طفولة وصبا عاشها وكانت اللغة الدارجة بين الناس في هذا الوقت حيث رقة الحال هي البساطة والرضا بما قسمه الله من سمات هذا العصر.... تشعر وكأنك سافرت للماضي في رحلة بالقطار عبر الزمن فلنتأمل العنوان كلمة"صفاري" وتدل على اختيار اللون الأصفر واستخدام صفة الصفار وإلحاق الصفار بالشمس التي تشرق وتغرب بتدبير وحكمة من الإله تُنير الكون نهارًا ثم تغرُب بالمساء ليَسكُن الكون ويهدأ ويستغرق في نومه العميق إلى أن يتبيَّن الخيط الأبيض من الأسود ويبدأ يومًا جديدًا وتلك كانت حياة الكاتب كل يوم عنده هو في شأن في شكل تَصَوِّري لأسلوب كتابته كقاص وروائي وشاعر ولما قرأت له وكوَّنت عنه انطباعًا حيث استخدم دائمًا أسلوب الحكَّاء في سلاسة وبساطة تُدهش القارئ وتجعله ينجذب لكتاباته ويتفاعل معها ويشعر أنه يتحدث عن عدة فئات بالمجتمع لا يتحدث عنها الكثيرين وخاصة الفئة الطيبة البسيطة التي تعيش بالريف المصري الجميل وهدوئه وصفائه كنقاء قاطنيه
أشار الكاتب في لمحة منه أنه دومًا كان حائرًا لاستخدام والدته تعبير "صفاري شمس" حيث أراد معرفة معناه وإلام يُشير وهل هو تعبير فقط عن الشمس الذهبية الجميلة أم عن الإعياء والمرض أم هي بصيرة وحكمة من أشخاص عاشوا بزمن لم نعشه ولهم رؤيتهم الخاصة وقد استخدم الكاتب الأسلوب الأدبي كونه شاعرًا في عرض قصته حيث نجد تعبيره
"أحاول فك رموزها" يشعرك بأنك أمام لغز كبير يبحث عنه الكاتب وهو أسلوب التشويق والإثارة للقارئ ليُكمل القراءة في عالم ا. طه هيكل الخاص
استخدم الكاتب الصور الجمالية والتشبيهات في سرده حيث ذكر هذا التعبير
"أو تعني مرضا ألم بها حال ذبولها وعودتها إلى بيتها
في عالم اللامتناهي"
جعل الشمس كالإنسان الذي يمرض والنبات أو الزهرة التي يصيبها الذبول ويظهر أمامنا تراكب الصور البيانية ووصفه للشمس بالإنسان الذي يعود إلى بيته بعد انتهاء مهمته وعمله اليومي
واستعان الكاتب بالتعبير"العالم اللامتناهي" ليجعلك تسافر معه في فلسفته الخاصة ورؤاه وتتخيَّل تُرى ماذا سيحدث بعد ذلك وإلى أين يريد أن يأخذنا؟
ثم نصَّب نفسه كقارئ وناقد بعينه حين ذكر
"وجاء بلفظ السفر فتسافر الشمس إلى حيث لانعلم ولا ندري في عالم من الغيب يجل عن التوغل فيه وفي كنهه أسمع أمي تقول صفاري شمس في عز وهج حرارتها" فهو قاص ومُفسِّر للمعنى وناقد يقرأ بعين القارئ في نفس الوقت واستخدامه "تسافر الشمس" يجعلك دائمًا على علم أن الشمس كائن حي يشعر ويفعل أفعال البشر يأتي ويذهب ويسافر
وترى النزعة الإيمانية عند الكاتب وذكرِه عالم الغيب والغيبيات التي لا يعلمها إلا الله
ويقول الكاتب "أسمع أمي" وهذا يدل على احترام الأم التي لها شأن وقدر عظيم عند الكاتب وإن كلامها مسموع وتملك حكمة خاصة لا يختلف عليها أحد وأن الكاتب عاش بزمن يدرك جيدًا قيمة الأم وأهميتها في حياة أبنائها والتأثير عليهم حيث جيل المبادئ والقيم والأعراف التي لا يستطيع أن يحيد عنها ابدًا
ثم يصف الكاتب لنا حياة الريف القاسية الممتعة بنفس الوقت حيث ذكر "في ريف قاتل حره وحياة تخلو من الرفاهية وتخلو من الضروريات كانت اللمبة الزجاجية وأختها الصغيرة السهاري هما مصدر النور بعد "صفاري شمس" وعاد الكاتب لاستخدامه الصور الجمالية وتشبيهه للطقس صيفًا وحر الريف بالإنسان القاتل
والحياة البدائية البسيطة التي تعتمد في الإنارة على ما يُعرف وقتها بلمبات الجاز ذات الزجاجة الجالسة في استعلاء تمتلئ بالكيروسين الذي هو الوقود الوحيد لإشعاله والاستعانة به وكذلك أخوات اللمبات الزجاجية والتي تُدعى "السَّهاري" واستخدام هذا اللفظ لما يتعلق بحياة الليل والسهر على ضوئها الخافت فلم يكن هناك أي رفاهيات متاحة ولم يدرك الناس فى هذا الوقت ان هناك ثُريَّات وحياة أفضل لا يوجد سوى الإنارة الإلهية ضوء وصفاري الشمس كتعبير الكاتب واللمبات الزجاجية المستخدمة للتعايش وتتوالى الأحداث التي توحي ببراعة سرد الكاتب ويحكي لنا عن بطل آخر من أبطال حكايته وهو "وابور الجاز" كان هو الموقد الوحيد المستخدم في إعداد الطعام للأسرة وفي أسلوب ساخر يعتاد عليه الكاتب في كتاباته يقُص علينا قصة وابور الجاز وحالته المُتعبَة وكأنه إنسان مصاب بالأمراض ينساب الكيروسين كشلال حول رقبته ويحاول الانتحار حرقًا في فقرة من المزاح وعلى سبيل الفكاهة ولم يغفل الكاتب دور أبيه وذكره في احتشام واضح " يبادر الأب في إطفاء حريق الوابور" موحِيًا بأهمية دور الأب والاستعانة به في المهام الصعبة وتهدئة الثورات كما شبَّه حالة ضجيج الوابور بالثورة ويأتي الحس الفكاهي للكاتب وذِكره في قصته ضيق وابور الجاز منهم وكأنه فرد من أفراد الأسرة له مهام وعليه واجبات وملَّ منها ومن عمله الشاق واجتماعهم حوله لشرب الشاي يوميًّا وإعداد الطعام ثم يُعيِّشنا الكاتب الحالة الاقتصادية للأسرة والرضا بما هو موجود وبسيط وحمد الله على عطاياه وعدم الاعتراض وكانت لقيمات من الملح والبهارات وهو ما يطلق عليه "الدُّقة" ومعروفة عند المصريين خاصة بالأرياف ويأخذنا الكاتب في حكايته من البطل الوابور والبطلة اللمبة إلى رحلات مكوكيَّة لأناس وصفهم بالرفاهية فقط لأنهم يملكون تلفاز يذهبون إليهم للاستمتاع بمشاهدة المسلسلات العربية والتاريخية فيه مقابل عرض خدماتهم حيث يظهر الكاتب لنا مبدأ التكافل الاجتماعي والتعاون فيما بينهم وخاصة أن رؤية المباريات والمسلسلات بمقابل مادي تعريفة أو قرش وهي عملة معدنية معروفة آن ذاك ولكن الزيارة ليست لمنفعة مادية فقط بل أيضًا لصلة الأرحام إذن فهي إشارة للفائدة العامة والقُرب من المجتمع المثالي رغم قلة الموارد الإقتصادية ويخرج بنا كالعادة من وصف حالة الحاجة لمعيشة أفضل في سخرية ومزح إلى العودة لتعدُّد أبطال الحكاية وظهور شخصية جديدة وهي عم جمعة المرِح خفيف الظل رغم ما رمز به للفقر والحاجة والعوز والعمل الذي يدمي يده برمز قسوة الأيام وهنا شبَّه الأيام بالإنسان الذي يقسو بلا رحمة ومع هذا لم يُفارق الضحك وجوههم ويظهر هذا في تعبير عم جمعة "علي الطلاق من أمك لو مارحت المدرسة لأدوس على زمارة رقبتك أبوظها"
وهو رمز للحنان الذي يُغدق به الأب على أبنائه رغم قلة حيلته وحاجته ولكنه يمزح مع ابنه بتعبير أدوس على زمارة رقبتك وهنا الصورة الجمالية وتشبيه الرقبة بالآلة الموسيقية المزمار وأسلوب تربية الأب لإبنه وحكمته في التعامل معه للامتثال لأوامره والنشأة السليمة
ونستمر برحلة الكاتب مع الوابور البطل الذي كُسِرَت رجلُه وتَوَسُّل قلوب أفراد العائلة إليه ليرضى عنهم فيُكتم صوته وكأنه يعترض على العمل ويقرر أن يُغيِّر مسار نيرانه إلى الجانب الآخر كما يُصوِّر لنا الكاتب في أسلوب ممتع كأننا نعيش هذه اللحظات معه وعندنا نفس مشكلة الأسرة مع الوابور الذي عرَّفَه الكاتب وكأنه من أفراد العائلة يشعُر مثلهم ويعمل ويثور على حاله البائس ومعاناته وصراخ عين ناره كتلك عين الشمس صفاري التي تذهب كل يوم للراحة بينما الوابور المسكين لا يهدأ ولا تتوقف رحلاته من المنزل إلى السمكري للتصليح لمواصلة مهامه وإسعاد أفراد العائلة والتي قد تبدو حياتهم شاقة ولكنها سعيدة لا يصمت ضجيجها بل تلحظ الترابط الأسري ومواجهة مشكلات الحياة كعُصبة واحدة لا تتفكك ثم يحكي لنا الكاتب في انتقالة رشيقة عن قصته مع مسلسلات شهر رمضان وذكرياته مع هذه الأيام الجميلة وموسم حصاد القطن وماء الأرض العذب الذي يخرج منها ويتذكر طعمه جيدًا وتتوالى الذكريات التي يمكن أن تملأ أسفارا من كثرتها وقوتها ويعود سؤال الكاتب للأم "هنروح إمتى؟"لتقول له العبارة التي يريد حل لغزها"صفاري شمس"
وينهي القصة كيفما بدأت بحكاية شمسه الذهبية الشاهدة على الأحداث والمكان والزمان ويأتي حكمنا على قصته بالنص الماتع المًشوِّق وتسلسل الأحداث الواضح والشخصيات المحورية واستخدام الأسلوب الأدبي الراقي في السرد والفكاهة والسفر بنا عبر الزمن وتجد القارئ كمن يقرأ مذكرات مليئة بالأحداث ويذهب معها هنا وهناك بل يتعلم بعض الدروس المستخلصة من الحياة مثل الرضا والقناعة والحمد وشكر الله على نعمه وكيف يستطيع الإنسان أن يصنع سعادته بنفسه رغم ما يواجهه من صعاب بداية القصة بالعنوان المثير واللغز ثم قوة الدخول في الأحداث واستخدام الصور الجمالية لوصف الحال في كتابة ساخرة مازحة دون أن يهرب القارئ ويضجر من القاص وحكايته ثم حبك النهاية وربطها بالبداية والعنوان وحكاية شمس الكاتب وتَوهُج ذكرياته داخل رأسه وتسابق الحكايات لتَحُض الكاتب على السرد في أسلوب رشيق أكثر من ممتع
تمنياتنا للكاتب القاص الروائي بمزيد من الأعمال الناجحة على نفس القدر الذي عهدناه عليه.
إرسال تعليق