بقلم الإعلامية نرجس قدا 🪶
في نهاية دروب حياتنا المتعرجة، سنصل إلى مقهى حزين ينبعث منه عبير الذكريات القديمة، كأنها أشباح تتراقص في الهواء الثقيل. هناك، تذكرة متاحة في يدنا المتعبة، وقطار ينتظرنا بصبرٍ، يُنقلنا من محطة إلى أخرى بضجيجه الخشن المليء بدخان السنين، وأنفاس السكك الحديدية التي عبرناها منذ رحلتنا الأولى قبل عقودٍ طويلة. سنرى، من خلال النوافذ الملطخة بالغبار، رفوف الكتب المهملة والأكواب الفارغة التي شهدت قصصًا لم تُروَ، والعابرين المغتربين الذين يحملون وجوهًا مألوفةً كالألم، والمتسولين اللصوص الذين يسرقون ليس المال بل لحظات الرحمة.
ستمرّ على مخيلتنا، كشريطٍ سينمائيٍّ بطيء، جميع الأطياف التي عَبَرَتْنا: الطرقات الملهمة التي أشعلت في قلوبنا شعلة الأمل، والمظلمة التي غرقتنا في لجّة اليأس، منذ تلك اللحظة الأولى لولادتنا الهشّة. بعضها أزعجنا بصخبِهِ الذي يشبه عواصف الروح، وبعضها أسعدنا بلحظات الفرح الخاطف كالبرق، وبعضها ملامح غامضة لأشخاص غير مرحّب بهم، كالأصدقاء الخائنين أو الأحبّة الذين رحلوا دون وداع. سنستعيد الذكريات الهاربة، تلك التي تسلّلت منّا إلينا كالأسرار المكبوتة، سنستعيد أوّل محطات أعمارنا: الطفولة البريئة، والشباب المتقد، والكهولة الثقيلة، كلُّها تتراءى أمامنا كأفلام قديمة مليئة بالندوب.
نجلس حينها على كرسيٍّ مهترئٍ، مرّت عليه السنوات كالأمواج العاتية حتّى أصبح تحفةً فنيّةً في أرضٍ محشوّةٍ بالمطر الدائم، يصارع وحده رياح الهوى والعواصف الهوائية، ورطوبة الخواطر الرطبة بالحنين، وبعض الدموع التي لم تجفّ بعد. هذا الكرسيُّ يصارع أجسادنا المنهكة، التي عَبَرَتْ بنا كلُّ تلك الحدود المثقوبة بالوجع، المرشّوشة بقطرات الألم اليوميِّ، والموشومة بختم الرحيل الذي يقترب كالظلِّ. سنحاكي أنفسنا بهدوءٍ عميق، نضع أيدينا على رؤوسنا المثقلّة بالتجارب، مردّدين بصوتٍ خافتٍ كالأنين: "يا لهُ من عمرٍ مضى، مليءٍ بالأفراح والأحزان، والآن... يبقى القطارُ ينتظرُ!"
في هذه اللحظة، بينما ينطلق القطارُ بصافِّرِهِ الحزين، سندرك أنّ الحياة ليست سوى رحلةٍ من المحطّات، كلُّ واحدةٍ تحملُ درسًا، وكلُّ واحدةٍ تودِّعُنا بذكرى. هل سنتركُ المقهىَ خلفنا بابتسامةٍ، أمْ بدموعٍ؟ الجوابُ في الطريقِ الذي لم نُسلِكْهُ بعدُ.

إرسال تعليق