U3F1ZWV6ZTI4MzIwMDE5NjkzNTY5X0ZyZWUxNzg2NjcxNzI3OTEzMA==

غزة في عصر التوحش - جريدة الهرم المصرى نيوز

غزة في عصر التوحش

 

بقلم / دعاء عبدالنبي حامد

باحثة دكتوراه في الفلسفة الأفريقية الحديثة والمعاصرة كلية الآداب جامعة القاهرة

 

بماذا يمكن وصف وحشية الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة؟ هل يمكن اعتباره تصفية عرقية؟

في واقع الأمر أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي صراع من نوع خاص، نظراً لقدسية القضية من جانب قطبي الصراع، فهو صراع وجود، صراع بقاء، صراع من أجل الهوية الدينية فهو أبعد وأعمق من كونه صراعا على الأرض، لذلك فمستوى العنف الواقع على أحد قطبي الصراع (فلسطين) يصل إلى مستوى البشاعة والفظاعة والتوحش.

 يقدم الفيلسوف الكاميروني أشيل مبيمبي رؤية فلسفية عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي واصفاً معاناة الشعب الفلسطيني وبالأخص قطاع غزة من خلال مناقشة سلطة الحياة والموت حيث يرى أن سلطة الاستعمار تعني أن الاحتلال الاستعماري يقصد به الاستيلاء على المناطق الجغرافية ورسم الحدود وممارسة السيطرة على هذه الأرض وفرض وضع جديد من العلاقات الاجتماعية والمكانية والتي أصبحت في نهاية المطاف بمثابة إنتاج الحدود والتسلسل الهرمي؛ وتصنيف الناس وفقاً لفئات مختلفة([1]).

 إن الشكل الأكمل لسلطة الحياة والموت في الاحتلال الاستعماري المعاصر؛ في "فلسطين"؛ حيث تستمد الدولة الاستعمارية مطالبها الأساسية بالسيادة والشرعية من سلطة سردها الخاص للتاريخ والهوية، وهي رواية مدعومة بفكرة الدولة عن الحق الإلهي المقدس في الوجود، وهي رواية تتناقض مع رواية أخرى تستند إلى المكان المقدس ذاته، ولآن السردين متناقضين والشعبان يتبادلان النفي، فإن تحديد الأرض علي أساس الهوية الخالصة هو شبه مستحيل. العنف والسيادة في هذه الحالة يدعيان السيادة الإلهية، ويتصور الشعبين (الفلسطيني واليهودي) الهوية الوطنية على أنها هوية ضد الآخر، ضد الإله الآخر، ومن المفترض أن يدعم التاريخ والجغرافيا والخرائط والأركيولوجيا هذه المزاعم، لذلك فإن العنف والاحتلال الاستعماري يكتسبان بشكل أعمق من خلال الإرهاب؛ الحقيقة المقدسة.

يقول مبيمبي متحدثاً عن فلسطين " ليس هناك حاجة لقول المزيد، حيث نعلم جميعاً ما يجري – لا يمكن أن تكون "أرضاً محتلة" إذا كانت أرضك ملكاً لك. ونتيجة لذلك، فإن أي شخص آخر هو عدو أو كاره لذاته أو كليهما. علي أي حال ليس هناك حاجة لتحمل المسؤولية عن المعاناة التي لحقت بالطرف الآخر لأننا أقنعنا أنفسنا أن الطرف الآخر غير موجود، وبالتالي البلطجة والشوفينية والخطاب العنصري والطائفي، وهكذا كل سنتين أو ثلاث يوجد هجوما شاملا وغير متكافئ ضد السكان المحاصرين في سجن الهواء الطلق. وكلاً منا يعرف لماذا يفعل ما يفعله الجيش والشرطة والمستوطنون وطيارو غارات القصف والمتعصبين ومجموعة الفرسان الدوليين وصلاحيتهم الإلزامية، بدءاً من الولايات المتحدة الأمريكية. نعلم جميعاً ما يجري: بأي وسيلة ضرورية، يجب تطهير الأرض . أنا علي استعداد للمراهنة علي ما يلي: في فلسطين سيكن من الصعب العثور علي شخص واحد لم يفقد أحداً – أحد أفراد الأسرة أو صديق أو قريب أو جار. إنه أسوأ من بانتوستانات Bantustans جنوب أفريقيا. من المؤكد أنه ليس نظام الفصل العنصري على غرار جنوب أفريقيا، بل أكثر فتكاً بكثير. لم يتم أخذ ما يكفي من الأرض. إنها فوضى هائلة. غضب واستياء ويأس . اختلاط القوة والظلم وعقدة التفوق. يحق لإسرائيل أن تعيش بسلام. لكن لن يتم حمايتها إلا بالسلام في ترتيب كونفدرالي يعترف بالإقامة المتبادلة إن لم يكن المواطنة. إن احتلال فلسطين هو أكبر فضيحة أخلاقية في عصرنا، وواحدة من أكثر المحن اللاإنسانية في القرن الذي دخلناه للتو، وأكبر ميلا جبانا في نصف القرن الماضي. ونظراً لأن كل ما يرغبون في تقديمه هو قتال حتى النهاية، لأن ما هم على استعداد للقيام به هو المضي قدماً في المذبحة والدمار والإبادة المتزايدة، فقد حان الوقت للعزلة العالمية"([2]).

 إن إسرائيل تشيد الجدران الخرسانية والحواجز الأمنية علي قدم وساق، ومع الجدران تظهر ترتيبات أمنية أخرى من نقط تفتيش وسياجات وأبراج مراقبة وهكذا تحُاصر مجمعات سكنية فلسطينية تحت رقابة إسرائيلية، بالنتيجة يعمد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في استخدام العديد من تقنيات المراقبة والتفرقة التي تعرف في هذه الأيام انتشاراً في جهات أخرى من المعمورة، تمتد هذه التقنيات للحد من عدد مرات دخول الفلسطينيين إلى إسرائيل وإلى المستوطنات وفرض حظر تجوال في وسط الأراضي الفلسطينية. أيضاً في الأراضي المحتلة نجد ممارسات إسرائيلية على تسيير السجلات واحتكار إصدار بطاقات الهوية الفلسطينية (وهذا ما يسمى بتجريد الاحتلال المحتل من هويته في أبسط صورة) وهذا الأمر يوجد في كل مناحي الحياة اليومية تقريباً في الأراضي المحتلة سواء تعلق الأمر بالتنقلات اليومية والحصول على مختلف الرخص أو بمراقبة الضرائب. إن ما يميز هذا النوع من الفصل العنصري إنه يتحول إلى خنق، فالاحتلال في كل الاعتبارات صراع جسد لجسد([3]). 

في عدة مناطق من العالم، أصبحت عمليات المحاصرة حتى الآن القاعدة الأساسية، فالزمن مسحوق باستمرار على أن يقتصر فيه كل قسم من البشرية علي تحقيق وجودها محاطة بأسلاك حديدية شائكة وكأنها في أقفاص، وذلك من خلال الحصار والإغلاق المفاجئ وإن لزم الأمر استخدام القنابل العنقودية، باختصار الخراب. والإنسانية الموجودة في قفص هي فلسطين عموماً وغزة خصوصاً، اللتان صارتا الشعار بامتياز، فهما من أكبر نماذج لنظام الوحشية في طور الاستكمال التكنولوجي والذي يهدف إلى أن يصير عالمياً. مع امتياز هذا النظام بالاستقواء بالخارج والعسكرة والرقمنة والتضييق علي الحقوق، ومهمته هو تيسير تحرك بعض الطبقات العرقية مع منع أخرى أو منحها التحرك بمقابل شروط أكثر فأكثر قساوة. أصبح اليوم تعريف عملية التنقل بعبارات جيوسياسية وعسكرية وأمنية أكثر منها بعبارات حقوق الإنسان، إن تقييم الخطر علي تبرير معاملة متفاوتة وعنصرية ترتكز أحياناً علي معايير غير معلنة عن لون البشرة أو عن الديانة.([4])

إن نشر الأسلحة من أجل أقصى قدر من تدمير الأشخاص وإنشاء عوالم الموت واستخدام أشكال

جديدة وفريدة من نوعها للوجود الاجتماعي والتي يتم فيها إخضاع أعداد كبيرة من السكان لظروف الحياة التي تمنحهم وضع الحي الميت، أن تلك الأساليب والتقنيات المتطورة والمدمرة أصبحت نموذجا لعصر التوحش. وحشية تجاوزت الحدود، لأن الإنسان الغربي يمتلك ترسانة من الأسلحة الفتاكة ووسائل الدمار النووي والذي لا يدمر ذاته فقط بل يدمر الكائنات الحية معه([1]).

وفقاً لمبيمبي أن الاحتلال الاستعماري المعاصر لفلسطين؛ هو أنجح أشكال الموت، حيث اعتبر أن العنف والسيادة قائمان علي أساس ديني، تتشكل الناس من خلال عباده إله أسطوري، ويتم تصور الهوية الوطنية علي إنها هوية ضد الآخر، لذلك فإن الآليات تختلف عن نموذج الاستعمار القديم، هذا الاحتلال الإسرائيلي المشتت عبر المستوطنات في قطاع غزة وفقاً لمبيمبي يفرز مساحات من العنف، وأصبحت الحرب الآن بنية تحتية تستهدف شعوبا بأكملها من قبل السيادة.

ومن خلال العنف المتبع والممنهج، يمكن تحديد الأشخاص الذين يموتون والذين يظلون على قيد الحياة. قد يتخذ العنف من الدين نقطة انطلاق للعمل على إبادة وطمس هوية الشعوب وفي فلسطين نموذج لذلك، وعلى الرغم من الأشكال المختلفة من العنف والأسباب المتعددة إلا أن يظل العرق والعنصرية هما العامل الأساسي والدافع الرئيسي له. لذلك نجد مبيمبي يدعو بمنتهى الوضوح إلى نبذ العنف والعمل على تحقيق العدل والمساواة، العمل من أجل الإنسانية، إنسانية واحدة مهمة اختلفت المعتقدات والألوان والأجناس.

في الواقع إن رؤية مبيمبي رؤية واقعية عميقة في وصف معاناة الشعب الفلسطيني المعتدى عليه من قبل سلطة الاحتلال الغاشمة والتي تستند بقوة على الغرب الداعم لها. ذلك الغرب المتشدق بحقوق الإنسان والعجيب ذلك الموقف تجاه أرض مغتصبة وشعب مهدور دمه ويعلم الجميع ذلك دون مساندة غربية لأصحاب الحق. 

في الصراع الروسي الأوكراني تعالت الدعوات تنديدا بما يحدث في الأراضي الأوكرانية أين هذا التنديد اليوم بما يحدث في غزة، أين المجتمع الدولي مما يلحق بصغار فلسطين، أين حقوق الإنسان من الحصار المفروض وقطع الماء والكهرباء ومنع وصول المساعدات. لماذا نظام الكيل بمكيالين ذلك النظام المتبع من قبل الغرب تجاه القضية الفلسطينية، في واقع الأمر إن دلالة ذلك ما هو إلا استمرار لنموذج العنصرية الغربي تجاه الشعوب الأخرى، أن الحديث عن الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان مجرد ستار تكمن خلفة نماذج السيطرة والهيمنة والغطرسة الأوروبية.

إن المركزية الأوروبية ما زالت موجودة في ظل الاحتلال الحديث والمعاصر لدولة فلسطين ولكنها تتخذ شكلا آخر لها وهو الشكل المقدس، لذلك أصبحت عنصرية اليهود ضد الفلسطينيين عنصرية دينية واحتقار للجنس الآخر لم يكن على أساس اللون بل على أساس المعتقدات الدينية وما يترتب عليها أخطر أنواع العنف وهو العنف الديني فيكون لديهم الحق في قتل وإبادة فئات من البشر تحت مسمى الحفاظ على الهوية الدينية.

إن معاناة غزة والشعب الفلسطيني من أبشع المعاناة في القرن الحادي والعشرين، جريمة أخلاقية كبرى ضد الإنسانية، ضد الأطفال والنساء والعزل الأبرياء، رغم خروج الكثير من شعوب مختلفة تندد بالمذابح التي تحدث في غزة، إلا أن على المستوى السياسي لا يوجد استجابة، بل العكس عندما تحركت جيوش من أمريكا وإنجلترا وألمانيا في المتوسط كان ذلك من أجل حماية الكيان الصهيوني وليس من أجل الضعفاء. إن ما يحدث في غزة جريمة  يتغاضى عنها المجتمع الدولي! عفواً جريمة تتغاضى عنها العنصرية الغربية.



- Mbembe, Achille. (2003). Necropolitics. Translated by Libby Meintjes, Public Culture, Duke University press, Vol 15, n 1. PP. 11-40.

 -  Soske, Jon& Jacobs, Sean. (2015). Apartheid Israel, Haymarket Boos, Chicago, p 8.

  - مبيمبي، أشيل. (2019) سياسات العداوة، ترجمة: ميلود، طواهري.  لبنان: دار الروافد الثقافية، ص 71، 73.

  - مبيمبي. (2021) الوحشية فقدان الهوية الانسانية، ترجمة: نادرة السنويس. لبنان: دار الروافد الثقافية، ص 212: 216.

  - مبيمبي. الوحشية فقدان الهوية الإنسانية، المصدر السابق، ص 7: 9.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة