U3F1ZWV6ZTI4MzIwMDE5NjkzNTY5X0ZyZWUxNzg2NjcxNzI3OTEzMA==

قصة قصيرة بقلم نداء علي - جريدة الهرم المصرى نيوز

قصة قصيرة بقلم نداء علي

 

بقلم / إيمان محمد إبراهيم


#وبين عينيكَ وجدتُ ضالتي


أقبل الليل واحتل ظلامه ما كان للنهار من هيمنةٍ وانقبض قلبي خوفاً من الوحدة القاسية التي تصاحبني كل ليلة. 

لقد عدت منذ قليل من عرسه. كنت ابتسم بسعادة وقلبي يئن باكياً لكن عيني ومنذ سنوات لم تذرف دمعة واحدة. 


لا أعلم ما أصابني. هل مكتب تنسيق البشر منحني جواباً بالرسوب مدى الحياة! 


أنا فاتنة! 

فتاة وحيدة بين خمسة من الصبيان تزوج جميعهم ولم يبق سواي. أنا فاتنة؛ إسمي هو صفة لا تتناسب مع روحي المشوهة، لكنه إختيار والدي الذي فرح كثيراً عند رؤيتي فقد مُنحتُ جمالاً أخاذاً؛ لوحة فنية بديعة إخترقَتْها بقعةٌ سوداء فجعلتها ناقصة. فأنا فاتنة البكماء. 


قضيت طفولتي بين طرقات العيادات الطبية وغُرف الفحص في محاولة بائسة من والدايّ وخاصة أمي في علاجي… 

توفي والدي ولحقت به والدتي وكأنها لم تطق العيش دونه. 


وها أنا الأن وحيدة لا أجد من يفهم مشاعري سوى بالإشارة.. ولكن بعض المشاعر تحتاج الي حوار أتوق الى سماع صوتي وانا اتحدث؛ وأنا أبكي؛ وأنا أحب. 


لقد احببتُ ولما لا!  أليس لي حق في الحياة؟! 


هل الحب يحتاج الى طلاقة لسان! ألا يكفي أن ينبض قلبي لأجل شخص لو أنه يري بعين قلبه لأدرك حبي منذ سنوات.


أحببت ساهر ابن عمي وحلم حياتي.. لكنه جن جنونه وثار بشدة معترضاً عندما سألته زوجة عمي عن رأيه بي كزوجة له. مازلت اتذكر كلماته القاسية وهو يقول :


هل تريدينني أن اتزوج بفاتنه!؟

تلك البكماء! وماذا عني؛ كيف اتفاهم معها فيما بعد؟ هل أقضي باقي حياتي أشير إليها بما أود قوله؟!

وماذا عن أبنائي؟ ما ذنبهم!! هل أبليهم بأم كهذه لا لشيء إلا لأنها ابنة عمي؟! 


يا الهي لقد ذبحني بكلماته؛ لكنه محق ولم أجد بكلامه افتراء. 


اكتفيت بصمتي وهل لديّ رفيق سواه. حاولت أن أرسم ملامح السعادة عند رؤيتي له؛ بينما قلبي يستغيث رغماً عني. 


تزوج ساهر بزوجة مناسبة كاملة الأوصاف. تتحدث بلسانه، تخبره كلما أرادت انها تحبه وتشتاقه. 

وبقيت أنا أعانق قلبي المكلوم وأخبره أن القادم أفضل! 


وتمر الأيام وصمتي يسكن عالم ولا جديد غير أني أشعر بشماتة لم أعهدها بنفسي؛ فقد تزوج ساهر ويأتي يومياً شاكياً لأمه من زوجته ذات اللسان السليط. فإن أغضبها تسمعه ما لا يود سماعه وإن سبها تسبه. 


أنا لست ناقمة علي مصابي ولكنني بشر. بشر ويقتلني الظلم وقد تجرعته مراراً واحتل فؤادي غصة مريرة مما قاله حبيبي وأحسست بالانتصار بعدما رأيت هزيمته في زواجه لا لشيء إلا لأنه عايرني بما ليس بيدي. 


تمر الأيام والشهور تعقبها سنوات يتغير بها الكثير وأنا كذلك أتغير.. ما كنت أحبه أصبحت أراه عادياً؛ وما كنت أراه مستحيلاً أصبح ممكناً. 


طلق ساهر زوجته بعد أن صار أباً لطفلة جميلة تركتها أمها وتزوجت بآخر وبقيت الفتاة بحضانة والدها الذي أدرك أنني مناسبة له اكثر من غيري؛ فأنا ابنة عمه وسوف أحافظ علي طفلته.. ولكنه لم يدرك أنني لم أعد كما كنت بالسابق. لقد زهدته ورغم ما فعله اخوتي عندما رفضت زواجي بساهر إلا أن أخي الأكبر وقف يساندني ولم يعبأ لأحد بل قال لي:

لا تهتمي لأحد؛ فأنتي حرة.


يا الهي كم زادت محبته بقلبي بعد تلك الكلمة، ربما لم يدرك أن كلمته البسيطة أحيتني، رفعتني الي عنان السماء. فقد تعامل معي  كإنسان من حقه الإختيار. 


وكما كان أخي (رحيم) رحيماً ومتفهماً كذلك كانت زوجته التي شجعتني علي التفكير بنفسي والخروج من دائرة العائلة المغلقة وبفضلها صرت أعمل بواحدة من تلك المنظمات التعليمية القليلة المخصصة للصم والبكم؛ لم أشعر بالسعادة طيلة حياتي مثلما أنا الأن. 


أخيراً حظيت بصحبة أناس يشبهونني.

يتحدثون اليّ بنفس أسلوبي، عندما أبتسم يبادلونني الإبتسام. لا أجد بينهم همزاً ولمزاً بل أصبحت أجد نفسي التي كانت تتواري بين البشر. 


مرت شهوراً أخري وعاد اخوتي لسابق عهدهم يودون تزويجي فأنا الآن بالثلاثين من عمري وقد ابتعد قطاري كثيراً ولابد أن ألحق به كي لا أنضم لقائمة من فاتهن قطار الزواج.


الآن اشتقت مرة ثانية للغة البشر. أود أن أصرخ بوجههم رافضة لتدخلهم المُهين بحياتي. لم أرغب يوماً أن أكون سليطة اللسان سوى الأن.. أريد أن أقول لاااااا؛ أنا لست بخيار ثانٍ، أنا إنسان. 


رفع أخي الأوسط يده عالياً وصفعني بقسوة معلناً رفضه القاطع لدلالي الزائد وتمنعي عن الزواج والسترة وعجزت أنا عن الزود عن نفسي فقام رحيم بحمايتي. انتهزت فرصة انشغالهم وابتعدت. 


تركتهم وغادرت مسرعة احتمي بجدران مدرستي وقلعتي الحصينة، فارتطم جسدي بجسم صلب كاد أن يدفعني أرضاً إلا أن أحدهم تلقاني بين يديه، نظرت إلى وجهه بفضول فرأيت عينان بين بريقهما نهار لا يشوبه ظلام الليل الذي أخشاه. أشار إليّ بلغته فابتسمت وعلمت حينها أن نصفي الآخر قد ساقه الله إليّ. 


وقفت معتدلة أحاول أن أبدو هادئة همست إلي قلبي أن يتوقف عن تلك الرجفة التي اصابته. يا الله!

لقد تسمرت قدماي مكانهما أود ظالفرار من أمامه ولا أستطيع. 


تنحنح هو بحرج وتوقعت أن يقول شيئاً لكنه أشار الي بلغتي التي أجيدها قائلاً فيما معناه

هل انتي بشر مثلنا!

لم أجبه بنفي أو إيجاب بل أجابته حمرة الخجل التي احتلت ملامحي ونظرت أسفل قدماي وكأنني أرجو منهما الحركة. 


طقطق بأصبعيه أمام وجهي فنظرت اليه فأشار الي معرفاً عن شخصه قائلاً :

أنا عابد؛ أعمل معك بنفس المدرسة منذ شهور ولم أجرؤ يوماً علي الاقتراب منك معتقداً أنك ملاكاً، أود أن أسألك سؤالاً واحداً وبعدها لن أضايقك. 


أومأت اليه برأسي وأشار اليّ 

هل  أنتِ مرتبطة؛ لديك حبيب أو خطيب أو زوج؟ 

لم أجد ما أقوله؛ هل أخبره أنني ومنذ لحظات صار لي حبيب وغاية أرجوها، رغماً عني أدمعت عيناي. 


لا أدري ما السبب؛ ربما تذكرت ساهر وما قاله عني منذ سنوات؛ ربما عاودني ألم صفع أخي لي منذ قليل؛ وربما تمنيت أن عابد وسؤاله يعني أنه يهتم بي ولكني خفت أن أكون واهمة

أشار ليّ عابد بمعني هيا أجيبي.


فأجبته بلا؛ لا ليس لدي حبيب ولا خطيب ولا زوج. 


فابتسم طالباً مني عنوان بيتي ودون إرادتي وافقت فأنا الآن علي أتم استعداد للصعود على متن قطاري بمليء إرادتي وبكامل رغبتي سوف أكمل طريقي مع نهاري الذي تأخر كثيراً ولكنه أتى.


هرولت الى بيتي عائدة ولم أقوى على إكمال يومي بالمدرسة بعد ما سمعته من عابد.

وصلت الى غرفتي وذهبت في سبات عميق هاربة من خوفي وأفكاري التي كادت أن تصيبني بالجنون فقد بدأ نفسي توسوس لي أن لقائي بعابد منذ قليل كان خيالاً نسجته لنفسي فمن غير المعقول أن يحبني أحدهم بتلك الطريقة. ليست الحياة وردية الى ذلك الحد . 


أفقت من نومي على صوت زوجة أخي حنان توقظني بهدوء به بعض الفضول قائلة

أفيقي أيتها الماكرة.


نظرت إليها لا أدري مقصدها.


فابتسمت اليَ قائلة : لما لم تخبرينا بقدوم أحدهم لخطبتك يا فاتنة؟ 

أشرت اليها أن تصمت قليلاً حتي أفيق وأستعيد كامل تركيزي وبالفعل أشفقت هي علي حالتي والتزمت الصمت. 

نظرت اليها وأخبرتها بما حدث بيني وبين عابد 

أخذت حنان تقهقه بسعادة ثم احتضنتني قائلة : لم يكن حلماً ولا خيالاً حبيبتي بل هو حقيقة ويجلس الآن مع إخوتك وبصحبته امرأة يبدو أنها والدته.


خرجت إليهم بعد أن ارتديت ما يليق وجلست تائهة لا أدري هل سيدوم حلمي أم سينتهي برفض من أحد اخواتي

فاجئني عابد وصدمني بقوة عندما تحدث بلسانهم قائلاً

لا تقلق أخي رحيم فأنا سوف أصونها وأفديها بعمري إن شاء الله .

يا الهي انه يتحدث ليس أبكماً مثلي؛ لما لم يكتمل الحلم! 

غادر الجميع تاركين لنا فرصة للحديث وظل عابد معي بالغرفة صامتاً. لاحظ نظراتي الحائرة فقال بصوته الرخيم مترجماً كلماته بالإشارة :

كان لي شقيقة واحدة تدعي جنة، وكانت لي كالجنة. أحببتها كأنها طفلتي. كبرت وصارت عروساً رائعة وتمت خطبتها لأحد أصدقائي. 


كان بمثابة أخي؛ ولكنه قتلني وقتل جنتي.

لقد تزوج بأخرى وعندما واجهته شقيقتي أخبرها بكل قسوة أنه يريد زوجة تشاركه حياته دون إشارات.. يود أن يسمع صوت زوجته. أخبرها أنه قد أصابه الملل من صمتها الدائم. 

اختنق صوت عابد وودتُ لو أخفيه بين ضلوعي الأن وأخبره أنني اشعر بمعاناته. 

لكنه تمالك نفسه قائلاً : ماتت شقيقتي قهراً بنفس اللحظة؛ أصيبت بسكته قلبيه وهي مازالت في الثانية والعشرون من عمرها. قتلها غدر صديقي وبقيتُ أنا وأمي سنوات بعيداً عن البشر وقسوتهم الى أن رأيتك وأدركت أن الله أرسلك إلينا رحمة منه بحالنا. 


 أحبك فتاتي ولا أرى بك شيئاً ناقصاً بل أرجو أن تتغاضي عن نواقصي.


نظرت اليه متعجبة فاستكمل كلماته قائلاً

أجل ينقصني الكثير؛ فأنا لست رجلاً ثرياً بل أنا في بداية طريقي لا أملك سوى بيتي ووظيفتي. لست وسيماً ولكني أحبك.


اكتفيت بالصمت ونظرت إليه وبادلني نظراتي بأخرى دافئة حنونه، مطمئنة، قاتلة لصمت الخوف. 


تركته جالساً وخرجت الى أشقائي ناظرة اليهم بثقة وثبات معلنة عن موافقتي علي الزواج.. لا أريد فترة خطوبة بل أريد أن أبقى معه الى الأبد.


اعترضوا بادئ الأمر وبالأخير وافقوا وتزوجنا. 


مضى علي زواجنا ثلاثون عاماً قضيتهم ببيت عابد لم أغضبه يوماً ولم أندم علي إختياري له أبداً . كانت والدته رحمها الله أماً بعد أمي، وكنتُ لها جنةً غير التي فقدتها.


رزقت بخمس من الذكور جميعهم يشبهون عابد وقد رزقنا الله بِرهم. 

وأدعو الله ليل نهار ألا يحرمني من نعيم حظيت به بالدنيا وأرجو أن يصحبني بالآخرة. 


 تمت


مع تحيات الكاتبة نداء علي

Nedaa.ali


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة