بقلم / محمد كامل حامد
اعتدت أن أعبر هذا الطريق ذهابًا وإيابًا، هو السبيل الوحيد لأبلغ مسكني في وسط المدينة، رغم معاناتي الدائمة من ازدحامه وتكدس الناس فيه، يقام فيه السوق الرئيسي، وتتوافد إليه الجموع لتلبية الرغبات وقضاء الحوائج. مع مرور الوقت وغياب الرقابة تتضاعف به الأعداد، يتم افتتاح كبير لمحل تجاري جديد كل يوم، تتراص البضائع المعروضة على الأرفف وعلى الأرض، وكأن المرتادين لا تعنيهم جودة السلع أو حتى طريقة عرضها.
تبحث عيناي كالعادة عن الرجل القابع بمفرده في أحد جوانب الطريق؛ وكأن هذا المكان صار ملاذًا وحصنًا آمناً له، يقيه التشتت في دروب غير معلومة، لكن ما يدهشني دائمًا اختياره للموقع والذي يظنه مناسبًا، كعادته يستند على حافة سور متهالك لمدرسة بائدة، ترسل الشمس أشعتها الحارقة؛ لتنتشر في كل مكان، ورغم امتداد الظل على الجانب المقابل، لكنه لا يتزحزح وكأنه جندي يدافع مستميت عن أحد المواقع العسكرية الهامة، يقبض بيديه على فأس صغيرة أحسبها تستخدم كوسيلة للهدم،
تثير فضولي حالة السكون التي أجده عليها طيلة الوقت، وكأنه يتحول إلى تمثال من الجرانيت المثبت في أحد المتاحف، يرتدي جلبابًا لا يتبدل، تزداد حمرة وجهه مع اشتعال أشعة الشمس ووصولها إلى الذروة.
في غير مرة وددت أن أدنو منه لأوجه سؤالي إليه:
- لماذا تفعل هذا بنفسك؟ ولماذا تصر على عقابها؟
لكنني أتراجع وأكتفي بإرسال نظرات الدهشة إليه، لم ألمحه لمرة واحدة يقوم بعقد صفقة عمل مع أحد، أو يبدي أحد المارة اهتمامه ومد يد العون إلى هذا المتكور على نفسه.
يطرح عقلي مزيدًا من الأسئلة: بمّ يعود آخر النهار لأولاده؟ لماذا يصر على المكوث في هذا المكان بالتحديد، ولم ينصرف إلى غيره؟ ولكني لا أعثر على إجابات.
أذكر جيدًا هذا اليوم الذي شعرت بحاجته، تقدمت إليه طالبًا معاونته؛ لهدم الحائط الفاصل بين إحدى الغرف والبهو في داخل شقتي، وقفت معه للمرة الأولى نتجاذب أطراف الحديث، حول العمل المطلوب وما سيتقاضاه من أجر في المقابل، وبعد مناقشات اتفقنا وانطلقنا بسيارتي، وصلنا ليقوم بسحب ثياب قديمة من جعبته وبدل ملابسه، شرع في معاينة المكان والحائط والغرف، وتنفيذ المهمة المكلف بها.
مضى بعضً من الوقت، تردد نداؤه في أذني، ليستدعيني بصوته ونبرته الخشنة، وضح لي أنه لن يتمكن من الانتهاء من الهدم اليوم، وأنه سوف يستكمل ما بدأه في الغد، رغم محاولتي الاعتراض لكنني وافقت لعلمي بمشقة هذا الأمر، ويقيني أن هذا الرجل لم يقم بمثل هذا الجهد منذ زمن.
في صباح اليوم التالي انتظرته، لكنه لم يأت ليستكمل ما اتفقنا عليه، عند الظهيرة توجهت إلى مكانه، لعله غفل عما كان بيننا، لم أتمالك نفسي حينما وجدته متكومًا في المكان ذاته، انفجرت فيه صارخًا، سألته عن سبب عدم مجيئه في الموعد، لكنه أشاح عني بوجهه وأنكر معرفتي.
بقلمي.. محمد كامل حامد
سرد سلس مكثف يفتح باب التأويل
ردحذف