✍️ بقلم / د. هدير محمود فايد
أخصائية تربية خاصة وإرشاد أسري – كاتبة بجريدة الهرم المصري نيوز
يُعَدّ التحليل النفسي للأطفال أحد أكثر الاتجاهات عمقًا في فهم سلوكيات الطفل ودوافعه الداخلية، فهو لا يقتصر على العلاج فحسب، بل يمتد ليكون وسيلة تشخيصية دقيقة تُمكّن الأخصائي من الغوص في عالم الطفل اللاواعي وفهم ما وراء تصرفاته.
يعتمد هذا النوع من التحليل على دراسة الأنا (Ego) عند الطفل، وكيفية نشأتها وتفاعلها مع مكونات الشخصية الأخرى وفقًا لرؤية فرويد وميلاني كلاين، مع الاستعانة بأدوات إسقاطية مثل اللعب والرسم للكشف عن ما يخفيه الطفل في داخله من مشاعر وصراعات.
🔹 الأنا بين فرويد وكلاين
رأى سيغموند فرويد أن الشخصية تتكون من ثلاث قوى:
الهو (Id): مصدر الدوافع الغريزية واللذة.
الأنا (Ego): الجزء المنظم الذي يوازن بين الرغبة والواقع.
الأنا الأعلى (Superego): الضمير والمبادئ الأخلاقية.
تنشأ الأنا لدى الطفل من الصراع بين الهو والضمير، وتلعب دورًا أساسيًا في تكيفه مع بيئته.
أما ميلاني كلاين فقد أضافت منظورًا أكثر عمقًا في فهم الطفل، حيث اعتبرت اللعب وسيلة تشخيص وتحليل تعكس ما يدور في اللاوعي، فكل لعبة أو حركة تحمل رموزًا لمعاني نفسية دفينة.
🔹 مراحل النمو النفسي للطفل
وضع فرويد خريطة لتطور الطفل النفسي من الميلاد حتى المراهقة، وهي:
1. المرحلة الفمية: (من الميلاد حتى سنتين) ترتبط بالاعتماد واللذة الفموية.
2. المرحلة الشرجية: (2–3 سنوات) تتعلق بالتحكم والسيطرة.
3. المرحلة القضيبية: (3–6 سنوات) بداية تكوين الهوية الجنسية.
4. مرحلة الكمون: (6 سنوات حتى البلوغ) فترة استقرار نسبي.
5. المرحلة التناسلية: النضج العاطفي والتوازن النفسي.
وأي اضطراب في إحدى هذه المراحل قد يظهر لاحقًا في شكل مشكلات سلوكية أو انفعالية.
🔹 الاضطرابات النفسية والسلوكية عند الأطفال
تتنوّع اضطرابات الطفولة بين:
القلق والخوف المرضي.
العدوانية المفرطة أو الانسحاب الاجتماعي.
اضطرابات الانتباه وفرط الحركة.
اضطرابات النوم أو التبول اللاإرادي.
وهنا تأتي أهمية علامات الإنذار المبكر التي يمكن للأهل والمربين ملاحظتها، لتبدأ التدخلات العلاجية في الوقت المناسب.
🔹 أدوات التشخيص النفسي للأطفال
يعتمد الأخصائي النفسي على أدوات مقننة لتشخيص الحالة مثل:
CBCL: مقياس السلوك والانفعالات.
Conners: لتقييم فرط الحركة وتشتت الانتباه.
CASI: التقييم الشامل للأطفال.
WISC: اختبار الذكاء المصور.
كما تُستخدم الاختبارات الإسقاطية للكشف عن عالم الطفل الداخلي مثل:
CAT: اختبار القصص المصورة للأطفال.
HTP: اختبار البيت والشجرة والشخص.
KFD: رسم الأسرة.
DAP: رسم الشخص.
🔹 اللعب والرسم كمرآة للاوعي
يرى التحليل النفسي أن اللعب والرسم لغة الطفل الأولى، ومن خلالهما يمكن قراءة ما يعجز عن قوله بالكلمات.
عند كلاين، اللعب هو وسيلة الطفل لإسقاط مخاوفه ورغباته الداخلية.
وعند فرويد، هو وسيلة لتفريغ الطاقة النفسية والتعامل مع القلق.
من خلال الملاحظة الدقيقة لتفاصيل الرسومات أو طريقة اللعب، يمكن للأخصائي تحليل دفاعات الأنا ومستوى نضجها، مما يساعد في بناء تصور تشخيصي متكامل.
✨ من خبرتي في الميدان
في إحدى الجلسات، جاءني طفل كان يُظهر عدوانية شديدة في المدرسة، ورفضًا للتعامل مع زملائه. لم يتحدث في البداية، لكنه بدأ يرسم بيتًا صغيرًا بلا أبواب، ثم رسم شجرة مائلة تسقط أوراقها.
بمجرد أن سألته: "فين باب البيت؟"، قال بهدوء: "أنا مش عايز حد يدخل".
كانت هذه الجملة مفتاحًا لفهم ما يشعر به… اكتشفنا أنه يعيش حالة خوف من فقدان الأمان الأسري بعد انفصال والديه.
من هنا بدأنا العلاج بالفن واللعب التدريجي، حتى استطاع التعبير عن مشاعره والتصالح مع واقعه.
هذه التجربة وغيرها تؤكد أن الرسم واللعب ليسا مجرد أدوات تسلية، بل هما لغة الروح التي تنطق بها نفس الطفل حين يعجز اللسان عن الكلام.
ختامًا
التحليل النفسي للأطفال هو رحلة داخل أعماق النفس الصغيرة التي تحتاج إلى من يصغي إليها بوعي وعطف.
فكل رسمة، وكل حركة، وكل نظرة قد تحمل رسالة تستحق أن تُفهم…
لأن فهم الطفل هو أول خطوة في علاجه، وأقصر طريق لبناء إنسان سوي ومتزن.

إرسال تعليق